تشهد تونس في السادس من أكتوبر/تشرين أول الجاري انتخابات رئاسية هي الثالثة بعد ثورة 2011، والأولى في ظل دستور 2022.
و شهدت البلاد في الـ 14 من سبتمبر/أيلول المنصرم انطلاق حملة الانتخابات الرئاسية التونسية، بعد يوم من خروج مظاهرات احتجاجية قال منظمّوها إنها “للدفاع عن الحقوق والحريات”.
وفي الـ 22 من الشهر نفسه، نظمت الشبكة التونسية للحقوق والحريات تجمعاً احتجاجيا، قالت إنه “للتنديد بمشروع قانون قدّمه عدد من نواب البرلمان يستهدف تنقيح قانون الانتخابات والاستفتاء”.
ورأت الشبكة، في بيان لها أن خطوة تنقيح القانون الانتخابي التي جاءت بعد انطلاق الحملة الانتخابية وقبل أيام قليلة من يوم الاقتراع “تستهدف تجريد المحكمة الإدارية من دورها في مراقبة العملية الانتخابية”.
وفي الثاني من سبتمبر/أيلول، رفضت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الامتثال لقرار صادر عن المحكمة الإدارية التونسية يقضي بإعادة ثلاثة مرشحين للسباق الرئاسي بعد أن استبعدتهم الهيئة، رغم كون المحكمة الإدارية أعلى جهة مسؤولة في البلاد للفصل في النزاعات الخاصة بالانتخابات.
وينظر كثيرون إلى المحكمة الإدارية باعتبارها آخر الهيئات المستقلة في تونس، بعد أن حلّ الرئيس قيس سعيد المجلس الأعلى للقضاء في سنة 2022.
ودفعت الهيئة العليا للانتخابات بأنها الجهة الدستورية الوحيدة المعنيّة بالعملية الانتخابية”، قائلة إن هؤلاء المرشحين الثلاثة تم استبعادهم من السباق الرئاسي لأنهم لم يتمكنوا من تلبية الشروط (عشرة آلاف تزكية من مواطنين في عشر دوائر انتخابية، أو جمع عشر تزكيات من نواب في البرلمان، أو 40 تزكية من رؤساء المجالس البلدية).
وحسمت قوى معارضة تونسية عديدة موقفها من هذه الانتخابات بإعلان المقاطعة؛ ومنها جبهة الخلاص (التي تضم حركة النهضة)، والحزب الحر الدستوري، وكذلك خمسة أحزاب ديمقراطية يسارية (حزب العمال، والتكتل، والاشتراكي، والقطب، والمسار الديمقراطي الاجتماعي). وتنتقد تلك الأحزاب ما تراه “انعداماً لشروط المنافسة النزيهة”.
“لا وجود لأي تنافس”
الباحث التونسي شاكر الحوكي، أستاذ القانون العام، وصف المشهد الانتخابي بأنه “متشرذم”؛ بين دعوات للمشاركة من جهة، وأخرى للمقاطعة من جهة أخرى، “وكل فريق يتسلّح بجملة من الحجج والبراهين التي تثبت سلامة موقفه”.
وفي حديث لبي بي سي، قال الحوكي إن “المشهد إجمالًا يخلو إلى حدّ الآن من أي اهتمام من قِبل الشارع التونسي، حتى أنك لن تجد اثنين يتحدثان عن الانتخابات إلا نادرا”.
ويعزي الحوكي ذلك إلى “إقصاء الأحزاب وأبرز السياسيين الفاعلين من المشاركة في الانتخابات، واعتقال وسجن الكثيرين من أصحاب الرأي والمؤثرين في الحياة السياسية”.
أما الباحث التونسي محمد ذويب، فيُعزي ذلك المشهد الخالي من اهتمام الشارع، إلى قرارات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات “التي لم تتعامل مع المترشحين بالمرونة اللازمة”، وكان بإمكانها السماح لعدد أكبر منهم بالترشح، وبالتالي “إضفاء ديناميكية أكبر على المشهد الانتخابي”، على حد قوله لبي بي سي عربي.
ومن بين 17 مرشحا لخوض السباق الرئاسي، لم تعتمد الهيئة العليا المستقلة للانتخابات سوى مرشحين اثنين هما زهير المغزاوي والعياشي زمال، بالإضافة إلى الرئيس قيس سعيد، بينما في انتخابات 2019، خاض الانتخابات الرئاسية التونسية 26 مرشحا.
وفي بيان نشرته منظمة هيومن رايتس ووتش، قال بسام خواجا، نائب مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالمنظمة الحقوقية: “أبعدتْ السلطات التونسية جميع المنافسين الجديين تقريبا من السباق الرئاسي، ما يجعل هذا التصويت مجرد إجراء شكلي”.
وإلى ذلك، تشير الكاتبة التونسية آسيا العتروس إلى مجريات الحملة قائلة: “لا نكاد نلحظ وجود أي نشاط انتخابي في الشارع. لا وجود لأي تنافس. هذا هو المشهد تقريبا”.
وتضيف العتروس لبي بي سي: “كان يُفترض أن يكون هناك تنافس في برامج المرشحين. حتى المناظرة التي يفترض أن تجمع بين المرشحين لا أعتقد أنها ستحدث، لتبقى اليد العليا حتى الآن لقيس سعيد، ما لم نشهد مفاجآت من الناخبين التونسيين”.
وفي مجلة أفريكا ريبورت، كتب توماس باي يوت، يقول إن “السيناريو القائم في تونس حاليا لا يدع مجالا للشك في نتيجة الانتخابات الرئاسية”، مستبعدا أن تكون هناك جولة ثانية.
“في السادس من أكتوبر/تشرين أول، سيعاد انتخاب قيس سعيد وبأغلبية مريحة بما يكفي على الأقل لتأكيد شعبيته”، على حد قول باي يوت.
لكن الباحثة السياسية نرجس التركي، تقول إنه “لا توجد انتخابات على وجه الأرض إلا ويصاحبها القيل والقال والتشكك في نتائجها، لكن الحق للشعب في اختيار ما يراه صوابا”.
وتضيف التركي لبي بي سي عربي: “لو تُغلق جميع الأبواب الخارجية، ويُترك الشعب التونسي يبني نفسه من الداخل، فإنه من الوعي والذكاء بما يكفي للنهوض والوصول إلى القمة”.
شبكة الباروميتر العربي، وهي مؤسسة بحثية مستقلة تركز عملها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نشرت تقريرا في مارس/آذار 2024 تقول فيه إن “التونسيين بشكل عام يثقون في الرئيس قيس سعيد أكثر من ثقتهم في أيّ من الحكومة أو البرلمان.
ويثق ثلاثة أرباع التونسيين، أو نسبة 77 في المئة من السكان، “ثقة بالغة” في الرئيس سعيد. وتعدّ هذه النسبة متراجعة ست نقاط مقارنة بما قبل تدابير يوليو/تموز 2021 حيث كانت نسبة الثقة تبلغ 83 في المئة.
أما ثقة التونسيين في منظمات المجتمع المدني فهي ليست كبيرة؛ فثمة أربعة من بين كل عشرة تونسيين يقولون إنهم يثقون في منظمات المجتمع المدني، بحسب الباروميتر.
وبحسب منظمة العفو الدولية، زادت السلطات التونسية قبيل الانتخابات الرئاسية من مضايقاتها للمعارضين السياسيين وقيدت عمل الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية، كما اتخذت خطوات تعيق استقلال القضاء”.
وقالت الأمينة العامة للمنظمة أنياس كالامار: “من المؤسف أن نشهد تقويض أركان دولة المؤسسات التي أقيمت في تونس بعد 2011”.
وأضافت كالامار، في بيان للمنظمة: “السلطات التونسية تباشر عدوانا واضحا قبل الانتخابات على أركان حقوق الإنسان وسيادة القانون”.
“تقويض دولة القانون”
بعد انتخابه ديمقراطيا في 2019، كان هناك استياء شديد في الأوساط التونسية من الفترة الانتقالية التي تلت ثورة 2011 ورحيل نظام زين العابدين بن علي، فسعى الرئيس قيس سعيد، أستاذ القانون السابق، إلى تطبيق رؤيته الخاصة في إدارة البلاد.
وفي 25 يوليو/تموز2021 اتخذ قيس سعيد “تدابير استثنائية”؛ حيث علّق عمل البرلمان المنتخَب ديمقراطيا، وأطاح بنحو 100 مسؤول حكومي بمن فيهم وزراء ومحافظون، في خطوة وصفها مراقبون بأنها “انقلاب ذاتي”، فيما وصفها الرئيس سعيد بأنها “ميلاد للجمهورية التونسية الجديدة” قائلا إنها “ضرورية وقانونية لإنقاذ الدولة من انهيار شامل”.
وفي 25 يوليو/تموز 2022، اعتمد الرئيس قيس سعيد دستورا جديدا، كما قدّم وصاغ عددا من القوانين والمراسيم، التي يرى معارضون أنها تحدّ من حرية التعبير في البلاد، لا سيما مرسوم 54 لسنة 2022 والخاص بنشر وترويج الأخبار الكاذبة ومعاقبة المدانين في ذلك بالتغريم أو السجن.
ومنذ نهاية عام 2022 وحتى الـ 30 من مايو/أيار الماضي، تعرّض أكثر من 70 شخصا، بينهم معارضون سياسيون ومحامون وصحفيون ونشطاء ومدافعون عن حقوق الإنسان ومستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي، لملاحقات “تعسفية”، بحسب إحصاءات منظمتَي هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية.
كما قالت إذاعات ومواقع صحفية تونسية عديدة، بينها وكالة تونس أفريقيا للأنباء، إنها تلقت “تنبيهات ولفْت نظر” حول ما اعتبرته الهيئة العليا للانتخابات “تشكيكا في مصداقيتها واستقلاليتها وشفافيتها”.
ورفضت نقابة الصحفيين التونسيين، في بيان مؤرّخ في الأول من أغسطس/آب الماضي، ما وصفته بأنه “تدخُّل سافر في المضامين الإعلامية ورقابة غير مبررة على الصحفيين” من جانب الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
وأشارت النقابة إلى “سلسلة متتالية من الضغوطات التي مارستها هيئة الانتخابات على الصحفيين والمؤسسات الإعلامية في محاولة منها لفرض الوصاية على قطاع الإعلام وإسكات كل صوت حر يُثير النقاش حول القضايا العامة”.
أستاذ القانون العام شاكر الحوكي، قال لبي بي سي: “عدا عن اعتقال عدد كبير من السياسيين وإيداعهم السجن واحتكار وسائل الإعلام والسيطرة على القضاء ورفض الالتزام بأحكامه التي تخالف أهوائه، أجهز قيس سعيد على دولة القانون في تونس”.
“لم تعُد هناك دولة قانون، كل ما هنالك هو مزرعة الفرد الواحد؛ فثمة رئيس يدير كل أجهزة الدولة من أجل تحقيق أحلامه الخاصة”… وفي ظل ذلك، “يرغب قيس سعيد في انتخابه مجددا بلا برنامج ولا وعود انتخابية أو تعهدات” على حد قول الحوكي.
أما الباحث التونسي محمد ذويب، فيقول إن “هذا كلام مشكوك فيه، ولا يمكن تفنيده أو تأكيده”، موضحا لبي بي سي أن “خصوم سعيد يقولون ذلك، ولكن في المقابل هو يؤكد أنه لا يتدخل في أعمال أي جهاز من أجهزة الدولة”.
وترى سارة يركس، الباحثة في مركز كرنيغي للسلام، أن قيس سعيد أستاذ القانون الدستوري يستخدم القانون بمهارة لتأمين فوزه “بما ستكون أول انتخابات رئاسية غير ديمقراطية تشهدها تونس منذ نحو 14 عاما” على حد تعبيرها.
“المرسوم رقم 55 لسنة 2022، الذي صيغ بالأساس من أجل الانتخابات البرلمانية في 2022، استُخدم بشكل موسّع في الحملة الرئاسية ضد خصوم سعيد المحتملين، ليواجه العديد منهم اتهامات بشراء الأصوات”.
وتقول الباحثة آسيا العتروس لبي بي سي: “كل شيء يبدو موثقاً بالقوانين، والرئيس يقول إن أحدا لم يُسجن بسبب آرائه أو مواقفه السياسية أو غير ذلك، لكن في المقابل السلطات القضائية لا تقدّم معلومات عن الموقوفين. لا يمكن لأحد أن ينفي ذلك”.
وتستدرك العتروس قائلة: “يصعب القول إن هناك استعمالا للقانون لتقويض دولة القانون، ولكن ربما كان أصحاب التأثير في محيط قيس سعيد هم الأكثر دفعاً لهذا الاتجاه نحو تكريس منطق المؤامرة والبحث عن أعداء افتراضيين”.
إلى ذلك، ترى الباحثة السياسية نرجس التركي أن “هناك أطرافاً تحاول عرقلة مسيرة قيس سعيد في الوصول لأهدافه للانطلاق بالشعب التونسي .. هناك من يسعى، على غير دراية أو فهم للأوضاع الحالية في تونس، إلى تشويه صورة رئيس الدولة الذي يرى ما لا يراه كثيرون”.
وتضيف التركي لبي بي سي: “وإذا كانت القوانين لا تساعد في الوصول إلى حلّ مناسب للمشكلات التي تعاني منها البلاد، فإنه يجب تغيير تلك القوانين”.
“لا نكوص”
ومنذ وصول قيس سعيد للسلطة، تراجعت تونس من المركز 53 إلى المركز 82 على مؤشر الديمقراطية، طبقا لوحدة المعلومات بمجلة الإيكونوميست البريطانية.
وأشارت الإيكونوميست إلى تراجُع كل المؤشرات الاقتصادية تقريبا بتونس، لا سيما تلك التي تؤثر على الحياة اليومية. وفشلت البلاد في الوصول إلى مستويات ما قبل كوفيد، فيما يتعلق بالناتج المحلي الإجمالي.
كما بلغت نسبة البطالة حوالي 16 في المئة، فيما بلغت نسبة التضخم في أسعار الغذاء حوالي 10 في المئة. واقترب الدين العام من نسبة 80 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في تونس، وفقاً للإيكونوميست.
وإذا تسنّى للبعض القول إن الانتخابات الرئاسية المقبلة في تونس تكاد تكون معروفة المآل، فإن ذلك القول ربما لا ينطبق على مستقبل البلاد نفسها؛ التي بات أهلُها وشُغلهم الشاغل هو التعايش في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة، على نحو يغري بالمقارنة بين هذه الأوضاع الراهنة وتلك التي كانت سائدة قبل 2011.
لكن أستاذ القانون العام شاكر الحوكي يرى أن “تونس عادت إلى ما قبل الاستقلال بل إلى ما قبل الاستعمار” على حد تعبيره.
وقال الحوكي لبي بي سي: “رغم أن نظام بن علي كان قمعيا وسلطويا، لكن مع ذلك كان هناك حد أدنى من المعقولية بل وحتى الشرعية التي توفّرت بفضل إشراك بعض الأحزاب والتعامل الإيجابي مع النخب والغرب وتحقيق حد أدنى من العيش الكريم والامتناع عن التدخل في القضاء بشكل فاضح”.
“أما عهد قيس سعيد، فهو العبث المطلق؛ نظام شعبوي يرفض أي تعامل مع النخب والأحزاب وكل النقابات والمجتمع المدني. لم يتمكن إلى حدّ الآن من تحقيق أي تطور اقتصادي إيجابي… هذا عدا عن دوره في عزل الدولة التونسية عن المجتمع الدولي ومحيطها الإقليمي”.
لكن الكاتبة التونسية آسيا العتروس تقول: “لا، في2011 كانت الظروف مختلفة؛ أما اليوم فإننا نرى في تونس شارعاً يتحرك ونقابات تتحرك ومجتمعا مدنيا يتحرك” على نحو لم يكن قائما إبان نظام زين العابدين بن علي.
ويتفق الباحث محمد ذويب، قائلا لبي بي سي: “الحياة السياسية في تونس لم تتوقف؛ المسيرات والمظاهرات موجودة يوميا في أنحاء البلاد”.
وفي مظاهرات الـ 13 من سبتمبر/أيلول 2024، ردّد المشاركون هتافات تنادي بـ “رحيل الديكتاتور”. وتقول نرجس التركي إن ما يسميه البعض ديكتاتورية هو في هذه الحالة التونسية الراهنة “مراعاة لمصالح الشعب”.
وترفض الباحثة السياسية التونسية وصف الوضع الراهن في بلادها بالـ”نكوص”، قائلة: “لا نكوص؛ إنما هو تراجُع لوهلةٍ، تماماً كما يفعل العَدّاء عندما يؤخّر ساقاً ليتقدّم بسرعة فيما بعد”.
فهل يحسم قيس سعيد سباق الانتخابات من المرحلة الأولى كما تشير التوقعات، أم سنشهد مفاجآت؟ هذا ما ستكشف عنه الساعات المقبلة.
Source link
اضف تعليقك