الشيخة حسينة.. رحلة امرأة حكمت بنغلاديش بالنار والحديد ودماء العلماء | أخبار
أخيرا، تخلت الشيخة حسينة واجد (76 عاما) عن الكرسي وفرت هاربة من صيحات الجماهير الغاضبة، بعد عقدين من الزمن حكمت فيها ” نون النسوة” بالحديد والنار كما يرى خصومها.
خلال الساعات الأخيرة من حكم سيدة بنغلاديش الحديدية كانت المظاهرات الطلابية والشبابية قد وصلت مرحلة اللاعودة، وكان المحتجون يدفعون سطوة حرسها وعنفوانها بصدروهم العارية، إلا من غضب متأجج، وإصرار على إسقاط حكم الشيخة ذات الـ76 ربيعا، والمأموريات الخمس التي ابتدأت منذ العام 1996.
طويت صفحة حكم حسينة بعد أقل من سبعة أشهر من احتفالها بفترة ولاية رابعة على التوالي والخامسة بوجه عام، إثر فوزها في الانتخابات التي شهدتها البلاد في يناير/كانون الثاني الماضي، والتي سابقت فيها حسينة نفسها دون معارضة فعلية.
بيد أن الشهر الأخير من حكمها كان مختلفا، فقد كان الغضب الشعبي الذي قاده الطلاب يدق مسمارا أخيرا في نعش سلطتها التي كانت تميد تحت أقدام المحتجين الغاضبين.
وأدت تلك المظاهرات والاحتجاجات التي استمرت شهرا وخمسة أيام إلى إعلان الجيش البنغالي أن الشيخة حسينة قد استقالت من الحكم، وهو التعبير الأكثر لباقة عن انقلاب العسكري، سبق وأن تذوقت حسينة طعمه المر وهي شابة عشرينية عندما اغتيل والدها الشيخ مجيب الرحمن أول رئيس لبلاده، بعد انفصالها عن باكستان، بعد أشهر قليلة من انتهاء الحرب الأهلية، وتوليه رئاسة بلاد البنغال، وذلك بعد أن ساق 300 ألف شخص إلى المحاكم بتهمة التعاون مع باكستان، وارتكاب جرائم حرب
نجت الشابة حسينة من الموت الذي اختطف عائلتها، حيث كانت تزور وأختها ريحانة إحدى الدول الأوروبية، وانطلقت لاحقا في مسار سياسي ونقابي قوي، نقلها مع الزمن إلى رئاسة حزب رابطة عوامي الذي أسسه والدها مجيب الرحمن، لتصبح مع الزمن ثاني امرأة تحكم بنغلاديش بعد الشيخة خالدة ضياء، والتي تشترك مع حسينة في التهم الواسعة بالفساد والعنف، وفي أنهما جاءتا من بيت حكم، حيث تتلو حسينة خطى والدها مؤسس بنغلاديش، أما خالدة، فتتبع خطى زوجها الجنرال ضياء الرحمن، الذي اغتيل في انقلاب عسكري سنة 1981.
وقد تولت خالدة ضياء بعد ذلك رئاسة الحزب القومي البغلاديشي ومنه، انطلقت في مسار سياسي بين المحاكمات والإقامات الجبرية، قبل أن ينتهي بها رئيسة للوزراء سنة 1991، ثم رئيسة مستقيلة سنة 1996، لتنتهي مسارها سجينة بتهمة الفساد، ومقعدة بأمراض معقدة ومتعددة، ومع ذلك لم تسمح لها خليفتها وخصمها اللدود حسينة واجد بمغادرة البلاد لزرع كبدها التالف منذ العام 2023.
احتجاجات فعصيان فهروب
ضمنت الهند للسيدة حسينية سلامتها، فاستقلت طائرة عسكرية، هبطت بها في مطار أحمد آباد الدولي في الهند، وهو وجهة متوقعة وغير مفاجئة بالنسبة للكثيرين، فكما تطوق جغرافيا الهند جارتها بنغلاديش من جميع النواحي تقريبا، تظل علاقاتها السياسية مع عائلة حسينة ذات أبعاد تاريخية وخاصة، وتعود تلك العلاقات إلى انفصال بلاد البنغال عن باكستان بدعم قوي من الهند، التي مكنت لمجيب الرحمن، ليتولى السلطة ويقيم أول نظام علماني عريق وموال للهند في وجه خصمها باكستان.
وفي مستقرها الجديد في الهند خلفت حسينة وراءها بلدا ملتهبا جراء بفعل السياسات التي طبقتها خلال سنوات حكمها الصاخبة، وتاريخ طويل من الدماء، والحكم بيد من حديد، كما يقول الشباب المناهض لها والذي احتفل بإسقاط “الديكتاتورة” بعدة أن مهد لذلك بأكثر من 300 قتيل من المتظاهرين، وعدد من عناصر من الشرطة.
وقد دخلت الاحتجاجات التي بدأت في الأول من يوليو/تموز الماضي، مرحلة جديدة في الثالث من أغسطس/آب الجاري، حين أكد الطلاب العصيان المدني، كما تحولت أثناء ذلك إلى انتفاضة جماهيرية عارمة تمددت في أرجاء البلاد، مطالبة باستقالة الشيخة السبعينية ذات الملامح الهندية والشعر الدائر بين سواد وبياض، مثل أزمة البلاد، وتقلباتها الاقتصادية والسياسية المتفاقمة منذ سنوات، خصوصا مع وصول البطالة إلى أكثر من 18 مليون شاب عاطل عن العمل، في انهيار شديد لشعبيتها التي ظلت متصاعدة خلال سنوات ماضية، بسبب سياستها الاقتصادية التي حررت موارد بلادها، ورفعت نسبة الناتج إلى 7%، في بلد مكون من 170 مليون نسمة، وقوميات متعددة.
كانت البداية مع نظام الحصص الذي أقيم لأول مرة قبل أكثر من خمسة عقود على يد والد الشيخة حسينة، رئيس الوزراء حينها الشيخ مجيب الرحمن، بغرض تكريم أحفاد المحاربين من أجل الانفصال عن باكستان نسبة معتبرة من الوظائف العامة.
ويقول المحتجون الغاضبون أن 56% من الوظائف الحكومية تذهب وفقا لهذا النظام لفئات مختلفة، عبر تخصيص 30% لأفراد عائلات المقاتلين من أجل الحرية الذين شاركوا في حرب الاستقلال عن باكستان عام 1971، و10% للنساء و10% للأشخاص من المناطق المتخلفة في النمو و5% للسكان الأصليين و1% لذوي الإعاقة.
ويرون أن هذا النظام يفيد أبناء المجموعات المؤيدة للحكومة التي تدعم رئيسة الوزراء شيخة حسينة.
المرأة الحديدية.. مسار من الإعدامات
عرفت السنوات الأخيرة من حكم حسينة واجد بإطلاق يد الجيش والشرطة في قمع الخصوم، وإطلاق يد القضاء في إصدار أحكام الإعدام والسجن بالمؤبد، وعشرات السنين، فيما يقضي عدد كبير من السجناء بقية أعمارهم في غياهب الزنازين.
ووصل عدد المعتقلين جراء الاحتجاجات الأخيرة إلى نحو 10 آلاف، كما استحر القتل في المتظاهرين، ومن بينهم وفق اليونسيف قرابة 36 طفلا قتلوا بإطلاق النار عليهم في المظاهرات أو في منازلهم.
ووفق أرقام منظمة العفو الدولية، فقد أعدمت بنغلاديش في سنة 2013، أكثر من ألف شخص، أما في سنة 2023، فقد كان عدد المحكوم عليهم بالإعدام قد تجاوز 2400، ينتظرون حبل المشنقة، أو الرمي بالرصاص، كما وجد الصحفيون والمدونون أنفسهم في مواجهة أحكام قاسية بسبب آراء أو تدوينات تنتقد الحكومة.
وبشكل خاص نالت الجماعة الإسلامية في بنغلاديش نصيبا غير منقوص من إعدامات الشيخة حسينة، خلال السنوات الأخيرة، ومن أبرزهم:
- عبد القادر ملا، وهو قيادي وسياسي بنغالي بارز، وكان أول قيادي من حزب الجماعة الإسلامية يتم إعدامه على خلفية اتهامات بالتورط في جرائم قتل إبان حرب الانفصال عن باكستان عام 1971.
أعدم عبد القادر ملا في 12 ديسمبر/كانون الأول 2013 بالسجن المركزي بالعاصمة دكا، بعد أن قالت السلطات إنه أدين في فبراير/شباط 2013 بالتهم المنسوبة إليه وصدر عليه حكم بالإعدام وفقا لذلك.
- علي إحسان محمد مجاهد، وهو وزير سابق وأمين عام للجماعة الإسلامية في بلاده، وقد أعدم يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، بتهمة تعذيب وقتل مثقفين هندوس، وقد أعدم في اليوم نفسه الذي أعدم فيه صلاح الدين قادر تشودري، البرلماني عن حزب بنغلاديش الوطني الذي تتزعمه رئيسة الوزراء السابقة خالدة ضياء.
- محمد قمر الزمان: وهو قيادي أيضا في الجماعة الإسلامية نفذ فيه حكم الإعدام في الزمان يوم 11 أبريل/نيسان 2015 بالسجن المركزي بالعاصمة دكا، على خلفية اتهامه بالمشاركة في حرب الانفصال عن باكستان والتسبب في مقتل العشرات.
- مطيع الرحمن نظامي: نفذ حكم الإعدام بحق هذا الشيخ المسن يوم الثلاثاء 10 مايو/أيار 2016، بتهم بارتكاب أعمال إبادة جماعية والتعاون مع الجيش الباكستاني خلال حرب الانفصال عام 1971، ولم تفلح المناشدات المحلية والدولية للسلطات في ثنيها عن تنفيذ قرار الإعدام.
- مير قاسم علي: أدين هو الآخر بتهم ارتكاب ما وصفته السلطات بأنه جرائم حرب أثناء حرب الانفصال عن باكستان عام 1971 وشملت -بحسب المحكمة- قتل وتعذيب مناضلين من أجل الحرية.
ونفذ حكم الإعدام شنقا بحق مير قاسم علي في 3 سبتمبر/أيلول 2016 في سجن مشدد الحراسة على مشارف العاصمة دكا.
- غلام أعظم: أمير الجماعة الإسلامية في بنغلايش، وأدين هو الآخر بتهم ارتكاب “جرائم حرب” أثناء حرب انفصال بنغلاديش عن باكستان.
وقد توفي غلام أعظم في معتقله يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 2014، وهو في الـ89 من عمره، بعد أن حكم عليه بالسجن 90 عاما، قضى منها سنتين في السجن قبل أن يتخطفه ريب المنون.
- أبو الكلام محمد يوسف: من أكبر علماء بنغلاديش يحمل لقب “ممتاز المحدثين” وهو الدرجة العليا في ألقاب علماء الحديث في بلاده، وهو أمين عام سابق للجماعة الإسلامية في بنغلاديش، وأحد رفاق العالم الباكستاني الشهير أبو الأعلى المودودي، وقد توفي هو الآخر في السجن في 9 فبراير/شباط سنة 2014، بسبب تفاقم أمراض متعددة.
وإلى جانب هذه الرموز الكبيرة، فقد أعدم نظام حسينه عددا غير قليل من المثقفين والشباب والناشطين، ولكن الأغرب دائما هو قرارها بمصادرة بيوت من أعدموا.
وفيما أصبحت الشيخة حسينه بعد سلفها خالدة جزء من ماضي البنغاليين الذين ركلوا بكل نضال وتضحية حكما يرون أنه جثم على صدورهم طيلة العقود الماضية، وبدأوا تاريخا جديدا، مع إعلان قائد الجيش “وقار الزمان” استقالة الشيخة حسينة، لتبدأ صفحة جديدة من زمان بنغلاديش المضمخ بالحروب والدماء، وحكم السيدات الحديديات.