في تطور مفاجئ على الساحة السورية، دخل مقاتلو المعارضة،”هيئة تحرير الشام” وفصائل حليفة لها، مدينة حلب عاصمة المحافظة التي تحمل نفس الاسم، ما أثار مخاوف من اشتعال الحرب الأهلية في البلاد مرة أخرى بشدة لم تشهدها منذ سنوات.
وقطعت المعارضة الطريق الدولي الذي يصل العاصمة دمشق بحلب، كبرى مدن شمال سوريا، كما أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان.
وكانت المعارضة قد أعلنت الأربعاء الماضي عن عملية عسكرية واسعة ضد قوات الجيش السوري و”المليشيات الموالية لإيران” في ريف حلب الغربي أطلقت عليها اسم “ردع العدوان”
ومن جانبها، شنت قوات الحكومة السورية وحلفاؤها الروس غارات جوية مكثفة على العديد من البلدات والمدن التي تسيطر عليها المعارضة الجمعة، وذلك وفقا للمرصد السوري لحقوق الإنسان.
لكن ما هي قصة محافظة حلب؟
تقع محافظة حلب في الجزء الشمالي من البلاد وتحدها تركيا من الشمال ومحافظة الرقة من الشرق ومحافظة إدلب من الجنوب الغربي.
وتبلغ مساحتها 18.5 ألف كيلومتر مربع، وهي تشكل نحو 10 في المئة من إجمالي مساحة سوريا، وهي أكبر المحافظات السورية من حيث عدد السكان الذي يزيد على 5 ملايين نسمة من بين 23 مليونا هو عدد سكان سوريا.
وعاصمة المحافظة هي مدينة حلب التي كانت في السابق أكبر مدينة في سوريا والمركز الصناعي والمالي للبلاد، وكان يُطلق عليها جوهرة سوريا.
ومن بين أهم المدن في المحافظة عفرين وإعزاز وجرابلس وتل رفعت والسفيرة ومنبج وعين العرب.
وخلال العام الأول من الانتفاضة ضد الرئيس بشار الأسد، لم تشهد حلب الاحتجاجات واسعة النطاق ولا العنف المميت الذي هز البلدات والمدن الأخرى.
ولكنها أصبحت فجأة ساحة معركة رئيسية في يوليو/تموز 2012، عندما شن مقاتلون معارضون هجوما لطرد القوات الحكومية والسيطرة على شمال سوريا.
ولكن تقدم قوات المعارضة لم يكن حاسما، وانتهى الأمر بحلب إلى تقسيمها إلى نصفين تقريبا، حيث تسيطر المعارضة على الشرق والحكومة على الغرب.
حدث ذلك في وقت وجدت فيه حلب نفسها محشورة بين ما يسمى بتنظيم “الدولة الإسلامية” إلى الشرق والمجموعات الكردية السورية إلى الشمال الغربي، وقد خاض تنظيم “الدولة الإسلامية” والمجموعات الكردية معارك مع بعضهما البعض، وكلاهما اشتبك مع مقاتلين مناوئين للأسد مثل جيش الفتح.
ولم يتمكن أي من القوات الحكومية السورية والمعارضة من كسر الجمود حتى منتصف عام 2016، عندما قطعت القوات الحكومية بدعم من الضربات الجوية الروسية الطريق الأخير لقوات المعارضة إلى الشرق ووضعت 250 ألف شخص تحت الحصار.
وفي نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني، استعادت القوات الحكومية السيطرة على شمال حلب، فيما شكل نقطة تحول في الصراع السوري.
مدينة قديمة
وتُعد مدينة حلب عاصمة المحافظة واحدة من أقدم وأعرق المدن في العالم كله، وقد ورد ذكرها في النصوص المصرية من القرن العشرين قبل الميلاد.
وتم العثور على بقايا معبد يعود تاريخه إلى نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد في موقع قلعة حلب الشهيرة التي تعود إلى العصور الوسطى، والتي لا تزال تهيمن على المنطقة وكانت بمثابة معقل دفاعي لعدة قرون.
وقد ازدهرت حلب سياسيا واقتصاديا خلال القرن الثامن عشر قبل الميلاد باعتبارها عاصمة مملكة يمحاض، حتى سقطت في أيدي الحيثيين.
وفي وقت لاحق، أصبحت مدينة مهمة في العصر الهلنستي ومركزًا تجاريًا رئيسيًا للتجار الذين يمرون بين البحر الأبيض المتوسط والأراضي الواقعة إلى الشرق. وفي نهاية المطاف، تم ضمها إلى الإمبراطورية الرومانية ثم ازدهرت كمركز لحركة القوافل في ظل الحكم البيزنطي.
في عام 636 م، غزت الجيوش العربية الإسلامية حلب. وبعد حوالي 80 عامًا، في عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، تم بناء مسجدها الكبير.
وفي القرن العاشر، أصبحت حلب عاصمة الدولة الحمدانية في شمال سوريا، ولكنها عانت بعد ذلك من فترة من الحرب والاضطرابات، حيث قاتلت الإمبراطورية البيزنطية والصليبيون والفاطميون والسلاجقة من أجل السيطرة عليها وعلى المنطقة المحيطة بها.
ولم تتعاف حلب إلا في منتصف القرن الثاني عشر، ثم تمتعت بفترة من الازدهار والتوسع الكبيرفي ظل الحكم الأيوبي في القرن الثالث عشر.
ولكن هذه الفترة انتهت فجأة في عام 1260، عندما استولى المغول على حلب. ثم عانت المدينة من تفشي الطاعون في عام 1348 وهجوم مدمر شنه تيمورلنك في عام 1400.
في عام 1516، أصبحت حلب جزءًا من الإمبراطورية العثمانية. وسرعان ما أصبحت عاصمة لولاية خاصة بها وبرزت كمركز تجاري بين الشرق وأوروبا.
وتراجع دور حلب كمركز عبور للتجارة في أواخر القرن الثامن عشر، وبشكل أكبر بسبب ترسيم فرنسا وبريطانيا لحدود سوريا الحديثة في نهاية الحرب العالمية الأولى الأمر الذي قطع المدينة عن جنوب تركيا وشمال العراق وخسارة ميناء الإسكندرونة على البحر الأبيض المتوسط لتركيا في عام 1939.
وبعد استقلال سوريا، تطورت المدينة لتصبح مركزاً صناعياً كبيراً ينافس العاصمة دمشق، وزاد عدد سكانها بشكل هائل من 300 ألف نسمة إلى حوالي 2.3 مليون نسمة بحلول عام 2005.
ويتألف سكان حلب اليوم في معظمهم من المسلمين السنة، ومعظمهم من العرب، ولكن بعضهم من الأكراد والتركمان. كما تضم المدينة أكبر عدد من المسيحيين في سوريا، بما في ذلك العديد من الأرمن، فضلاً عن المجتمعات الشيعية والعلوية.
وتقول دائرة المعارف البريطانية إن جذور الجالية اليهودية في حلب تعود إلى العصور القديمة، وكانت حلب لعدة قرون مركزًا مهمًا للثقافة اليهودية. واستقر عدد كبير من اليهود الذين طردوا من إسبانيا في نهاية القرن الخامس عشر في حلب.
وفي القرن العشرين، وفي ظل المعارضة للوجود الصهيوني في فلسطين زاد العداء والعنف تجاه يهود حلب، ما أدى إلى موجة من الهجرة. وبحلول عام 1948، غادرت معظم الجالية اليهودية حلب، فيما غادر آخر السكان اليهود في تسعينيات القرن العشرين.
حرب استنزاف
عندما اندلعت الاحتجاجات المناهضة للحكومة في مختلف أنحاء سوريا في مارس/آذار 2011، بذلت السلطات كل ما في وسعها لضمان عدم انتشارها في حلب.
وقد ساعد التهديد بالانتقام الوحشي في الحد من المظاهرات إلى حد كبير في المناطق النائية من المدينة وجامعة حلب.
ومع ذلك، ومع تطور الانتفاضة إلى صراع، سرعان ما انجرفت حلب في الاضطرابات.
في فبراير/شباط من عام 2012، هز المدينة هجومان بالقنابل على مجمعات للمخابرات العسكرية والشرطة، مما أسفر عن مقتل 28 شخصا.
وبعد ذلك، بدأت التقارير تتحدث عن وقوع اشتباكات بين مقاتلي المعارضة والقوات الحكومية بوتيرة متزايدة في المناطق القريبة من محافظة حلب.
وبدأت معركة السيطرة على مدينة حلب في منتصف يوليو/تموز من عام 2012. وحققت قوات المعارضة مكاسب سريعة، حيث استولوا على العديد من المناطق الموالية للمعارضة في الشمال الشرقي والجنوب والغرب.
وبحلول نهاية الشهر، اشتدت حدة القتال وامتد إلى وسط المدينة التاريخي، بل ووصل حتى إلى أبواب المدينة القديمة، وهي أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو.
وفي سبتمبر/أيلول من عام 2012، اندلع حريق في السوق القديم بعد اشتباكات في المنطقة المجاورة، وفي أبريل/نيسان 2013 تحولت مئذنة المسجد الكبير التي يعود تاريخها إلى القرن الحادي عشر إلى أنقاض.
وفي غضون أشهر قليلة تحولت معركة حلب إلى حرب استنزاف حيث باتت معظم الأراضي متنازع عليها، وأصبحت خطوط المواجهة تتغير باستمرار.
ولم تتمكن قوات المعارضة من الحصول على الأسلحة الثقيلة التي يحتاجون إليها لهزيمة قوات الحكومة الأفضل تجهيزاً، في حين تعطلت خطوط إمداد الجيش واضطر إلى تركيز موارده على دمشق، حيث بدأ هجوم قوات المعارضة أيضاً في يوليو/تموز من عام 2012.
ولم يتمكن أي من الجانبين من كسر الجمود العسكري في حلب لمدة 4 سنوات لكن بعد عام 2013، شنت القوات الحكومية حملة جوية قاتلة في حلب باستخدام البراميل المتفجرة، ما سمح لها بتحقيق عدة مكاسب.
حدث ذلك فيما واجهت قوات المعارضة صراعات داخلية بين ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجماعات جهادية أخرى.
وفي مايو/أيار من عام 2015، حذرت منظمة العفو الدولية من أن الحياة أصبحت “لا تطاق على نحو متزايد” بالنسبة للمدنيين، واتهمت القوات الحكومية والجماعات المعارضة بارتكاب جرائم حرب.
تحت الحصار
أصبحت الحياة في حلب التي تسيطر عليها قوات المعارضة صعبة على نحو متزايد في سبتمبر/أيلول من عام 2015، عندما شنت روسيا غارات جوية دعما للرئيس الأسد.
وقالت موسكو إنها تستهدف فقط “المسلحين الجهاديين”، لكن سرعان ما اتهمتها القوى الغربية بضرب المتمردين الرئيسيين والمناطق المدنية.
وقد مكّن التدخل الروسي الحكومة السورية من التقدم على عدة جبهات.
وفي فبراير/شباط من عام 2016، تمكنت القوات الحكومية من كسر الحصار الذي فرضته قوات المعارضة منذ فترة طويلة على نبل والزهراء، وهما قريتان شيعيتان شمال غرب حلب، وقطع طريق الإمداد الرئيسي من تركيا إلى المناطق الشرقية التي تسيطر عليها المعارضة.
وتعرضت قوات المعارضة لضربة أخرى كبيرة في يوليو/تموز عندما سيطرت القوات الحكومية على طريق الكاستيلو، وهو شريان رئيسي يمتد إلى شرق حلب، مما أدى إلى محاصرة 275 ألف شخص يعيشون هناك.
وفي أوائل أغسطس/آب، استولت قوات المعارضة المتمركزة خارج المدينة على منطقة الراموسة التي تسيطر عليها الحكومة وفتحت ممرا جديدا إلى الشرق. ولكن بعد شهر واحد، استعادت القوات الحكومية المنطقة واستأنفت الحصار.
وأعلنت الحكومة عن شن هجوم واسع النطاق في 22 سبتمبر/أيلول، ورافق الهجوم قصف جوي غير مسبوق من حيث الحجم والكثافة، وورد أنه شمل استخدام القنابل الحارقة والقنابل العنقودية.
وفي منتصف أكتوبر/تشرين الأول، أُعلن عن وقف مؤقت للضربات الجوية من جانب واحد للسماح للمدنيين والمسلحين بمغادرة الشرق، لكن عددا قليلا جدا قبلوا العرض.
وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني، استؤنفت الحملة الجوية التي شنتها الحكومة، وكثفت القوات هجومها البري. وبحلول نهاية الشهر، كانت القوات الحكومية قد توغلت في عدة مناطق شمالية، مما دفع الآلاف من الناس إلى الفرار من منازلهم.
واستمر القتال حتى ديسمبر/كانون الأول من عام 2016، عندما سلم مقاتلو المعارضة المدينة للقوات السورية مقابل خروجهم الآمن منها. وتعرضت حلب لدمار أكبر بكثير من أي مدينة أخرى خلال الحرب الأهلية، حيث بلغت قيمة الأضرار أكثر من 7.5 مليار دولار أمريكي.
أهمية استراتيجية
يقول المراقبون إن السيطرة على حلب أكبر من أن تكون مجرد وجاهة يسعى كل طرف من الطرفين إلى بلوغها، فهي تعتبر مركزا مهما للنشاط الاقتصادي في شمالي سوريا، و لا تبعد عن الحدود التركية سوى بنحو ثلاثين ميلا أو نحو 50 كيلومترا، فمن أهم المزايا التي تتيحها السيطرة على المدينة هي تأمين خطوط الإمدادات.
وتفقد الجيوش حيويتها بدون الحصول على الطعام والوقود والسلاح، وكانت القوات الحكومية قد حقت تقدما عندما ساعدتها الغارات الروسية على قطع ممر الإمدادات فيما يسمى ممر أعزاز، وهو ممر حيوي كان يستخدمه المقاتلون ويربط بين بلدة كيليس في جنوب تركيا ومدينة حلب.
وكانت القوات السورية قد عززت أيضا مواقعها بتقدمها نحو طريق رئيسي يقود إلى الأحياء الشرقية من حلب، الأمر الذي أدى إلى خنق خط المساعدات الذي كان يمد المقاتلين بالإمدادات.
وفي عام 2016 عندما استعادت القوات الحكومية حلب قارن فابريس بالانش، المتخصص في الشؤون السورية في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، ما حدث بمعركة ستالينغراد في الفترة 1942-1943، والتي شكلت نقطة تحول في الحرب العالمية الثانية. وقال بالانش حينئذ إن الانتصار ضد قوات المعارضة كان حاسماً بالنسبة للأسد، الذي كان “نصف رئيس فقط دون سيطرة كاملة على حلب، ولكن مع هذا النصر، يمكنه أن يقدم نفسه كرئيس حقيقي لكل سوريا”.
Source link
اضف تعليقك