صدر الصورة، Getty Images
في عصر السرعة والاتصال الرقمي الدائم، يبدو أن الإنسان المعاصر قد بات أسيرًا لعالم التفكير، مستغرقًا في دوامة لا تنتهي من التحليل والقلق، فأغلب الناس تقضي معظم ساعات يقظتها غارقة في أفكارها، إلى حدّ يصعب معه التوقف أو حتى ملاحظة هذا الضجيج الداخلي.
تقول الباحثة والمحاضِرة في علم النفس الثقافي، ماريانا بوغوسيان، في مقال لها على موقع سايكولوجي توداي، إن محاولة ممارسة التأمل تكشف سريعًا مدى تغلغل الأفكار في وعينا، وهو ما يُعرف في الفلسفة البوذية بـ”عقل القرد”، في إشارة إلى العقل القَلِق الذي يقفز باستمرار من فكرة إلى أخرى.
وتشير دراسات إلى أن الإنسان قد يمرّ بأكثر من ستة آلاف فكرة يوميًا، وهو ما يفسر حالة التوتر الذهني المزمنة لدى كثيرين.
في مواجهة هذا الصخب الداخلي، يبرز التأمل اليوم لا كاتجاه روحي غامض، بل كممارسة تستند إلى أدلة علمية متزايدة حول تأثيرها في الصحة النفسية والجسدية.
صدر الصورة، Getty Images
ما هو التأمل؟
تعرّف مدربة التأمل نادين رضا التأمل بأنه تمرين ذهني يهدف إلى تدريب الانتباه وتعزيز الوعي، والحد من ردود الفعل الاندفاعية تجاه الأفكار والمشاعر السلبية العابرة.
وترى أن جوهر هذه الممارسة يكمن في التخفيف من إيقاع الحياة السريع، وإبطاء كل شيء، ولو لدقائق معدودة، عبر الجلوس مع الذات ومراقبتها دون سعي إلى إنجاز أو أداء مهمة.
وتوضح رضا أن هذا النوع من التركيز الذهني الممتد يُحدث تغيرات تدريجية، إذ يهدأ العقل، وتتباطأ المشاعر وتستقر، كما تهدأ ضربات القلب وينتظم التنفس، ليبدأ الإحساس بالسكينة في الظهور.
ومع الاستمرار في الممارسة، ينعكس هذا الهدوء داخليًا وخارجيًا، فيصبح الشخص أقل انفعالًا تجاه ما يدور حوله.
صدر الصورة، Photoshot
لماذا يحتفي العالم بالتأمل؟
يحتفي العالم سنويًا بـاليوم العالمي للتأمل في الحادي والعشرين من ديسمبر/كانون الأول، وبحسب الجمعية العامة للأمم المتحدة، تهدف هذه المناسبة إلى التذكير بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية.
وفي السياق نفسه، تصف منظمة الصحة العالمية التأمل بأنه أداة فعّالة للعناية الذاتية، تدعم العلاج وتعزز الصحة العامة، لا سيما في ما يتعلق بإدارة أعراض القلق.
وتشير المنظمة إلى أن دمج التأمل الذهني في الروتين اليومي، ولو لبضع دقائق، يمكن أن يساعد على تحقيق قدر أكبر من الهدوء والتركيز.
وتاريخيًا، تمتد جذور ممارسة التأمل، استنادًا إلى بيانات الجمعية العامة للأمم المتحدة وتقديرات علماء الآثار، إلى نحو عام 5000 قبل الميلاد.
وقد ارتبطت هذه الممارسة بحضارات وديانات متعددة، شملت مصر القديمة والصين، واليهودية والهندوسية والجاينية والسيخية والبوذية، إضافة إلى المسيحية والإسلام.
واليوم، تُقدّر أعداد المداومين على ممارسة التأمل في أنحاء العالم بما يتراوح بين 200 و500 مليون شخص.
تأثير التأمل
تتنوع أشكال التأمل بين التأمل الموجّه الذي يعتمد على الخيال، والممارسات الحركية مثل اليوغا، غير أن خبراء تحدثوا إلى بي بي سي يشيرون إلى أن تأمل اليقظة الذهنية هو الأكثر حضورًا في الأبحاث العلمية.
في هذا الإطار، تقول الدكتورة ندى رأفت، الأخصائية النفسية الإكلينيكية، إن التأمل يمثل ركيزة أساسية في ممارسات اليقظة الذهنية، التي تعزز وعي الفرد باللحظة الراهنة، وملاحظة الأفكار والمشاعر دون إصدار أحكام مسبقة. ويتفق معها الدكتور علي قرقر، أخصائي الطب النفسي وعلاج الإدمان، مشيرًا إلى أنه رغم وجود فروق تقنية دقيقة بين التأمل واليقظة الذهنية، فإنهما يُبحثان ويُستخدمان علاجيًا بشكل متداخل.
وتشير دراسات متعددة إلى نتائج ملموسة لهذه الممارسات، إذ خلصت إحداها إلى أن التأمل بمختلف أنواعه يساعد في خفض ضغط الدم ونبض القلب ومستويات هرمون الكورتيزول المرتبط بالتوتر.
كما راجع باحثون أكثر من 200 دراسة تناولت ممارسات اليقظة الذهنية لدى الأصحاء، وخلصوا إلى فعاليتها في تقليل التوتر والقلق والاكتئاب، والمساهمة في علاج مشكلات صحية وسلوكية، مثل الألم المزمن والتدخين والإدمان.
وفي ما يتعلق بالاكتئاب، أظهرت أبحاث عدة أن العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية يسهم في خفض معدلات الانتكاس لدى من عانوا نوبات سابقة، إلى جانب تحسين الصحة الجسدية عبر تخفيف الألم والإرهاق لدى مرضى الآلام المزمنة.
وعلى الصعيد البيولوجي، توضح الدكتورة ندى رأفت أن الأبحاث تشير إلى تأثير مباشر لتأمل اليقظة الذهنية في الجهاز العصبي، إذ يزيد من سُمك القشرة الجبهية المسؤولة عن التركيز واتخاذ القرار، ويقلل في المقابل من نشاط وحجم اللوزة الدماغية، التي تُعد مركزًا للقلق والخوف، ما يعزز المرونة العصبية ويهدئ استجابات الجسم للتوتر.
مفاهيم مغلوطة
يعتقد البعض أن التأمل قادر على محو الأفكار السلبية تمامًا، إلا أن الدكتور علي قرقر يرى أن المشكلة غالبًا ما تكمن في ما يُعرف بـ”الرؤية النفقية”، حيث ينحصر إدراك الفرد داخل الحالة السلبية، فيلتقط عقله فقط ما يعززها. وهنا، يساعد التأمل على إعادة الانتباه إلى اللحظة الحالية، بما يتيح رؤية الصورة الأوسع.
كما يشير إلى استخدام ما يُعرف بـ”تقنيات التأريض” (Grounding techniques) لمساعدة الأفراد على التعامل مع الذكريات المؤلمة الناتجة عن الصدمات، عبر التركيز على المؤثرات الحسية.
من جانبها، تصحح نادين رضا اعتقادًا شائعًا آخر يرى في التأمل ممارسة تتعارض مع بعض الأديان بسبب جذوره البوذية أو الهندوسية، مؤكدة أن التأمل أداة للهدوء أو للتقرب إلى الله، بغض النظر عن المعتقد.
كما توضّح أن الهدف من التأمل ليس إيقاف الأفكار، بل عدم الانجراف خلفها، فالعقل الهادئ – على حد تعبيرها – هو عقل مُراقِب لا عقل فارغ.
وترفض رضا كذلك النظر إلى التأمل باعتباره رفاهية لا وقت لها في ظل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، معتبرة أن هذه الظروف تحديدًا تجعل التأمل أكثر إلحاحًا، كونه لا يتطلب تكلفة مادية ويمكن ممارسته في أي مكان عبر لحظات من الصمت والتنفس العميق.
صدر الصورة، Getty Images
هل التأمل مناسب للجميع؟
تؤكد الدكتورة ندى رأفت أن فوائد التأمل تمتد لتشمل حالات الاحتراق النفسي وبرامج علاج الإدمان واضطرابات الشخصية، لكنها تحذر من أن ممارسات اليقظة الذهنية قد لا تناسب الجميع بالطريقة نفسها.
فالأشخاص الذين لديهم تاريخ مع الصدمات النفسية العنيفة أو الاضطرابات الذهانية غير المستقرة يحتاجون إلى ممارسة هذه التقنيات تحت إشراف علاجي متخصص لتفادي أي آثار عكسية.
ويؤيد الدكتور علي قرقر هذا الرأي، مشددًا على أن التمارين التأملية ليست حلًا سحريًا واحدًا للجميع، وأنه ينبغي التوقف أو تجربة تقنيات أخرى تحت إشراف مختص إذا ظهرت آثار سلبية متكررة.
خمس دقائق
في ما يتعلق بكيفية البدء، تتفق الآراء على بساطة الخطوة الأولى. تقول الدكتورة ندى رأفت إن الدراسات تشير إلى أن المواظبة على التأمل لخمس دقائق يوميًا فقط تقلل من قابلية التعرض للتوتر، وتخلق مساحة آمنة لاستيعاب الضغوط.
وتقترح نادين رضا على المبتدئين الجلوس في مكان هادئ بعيدًا عن المشتتات، مع عقد النية على عدم فعل شيء سوى الجلوس مع النفس لخمس دقائق، واختيار التنفس كنقطة تركيز عبر ملاحظة دخول الهواء وخروجه.
وتؤكد أن التشتت أمر طبيعي، وأن النجاح في التأمل يكمن في ترك الفكرة والعودة بلطف إلى التنفس في كل مرة يسرح فيها العقل، قائلة: “لو فعل الشخص ذلك مئة مرة خلال خمس دقائق، فقد نجح في التأمل مئة مرة”.
ويضيف الدكتور علي قرقر أن ممارسة التأمل يمكن أن تتم على مستويين: ممارسة يومية منتظمة للحفاظ على كفاءة الذهن، واستخدامها وقت الحاجة كأداة سريعة لتخفيف التوتر في المواقف الضاغطة.
Source link




اضف تعليقك