- Author, جيرمي بوين
- Role, بي بي سي نيوز
يحلم ملايين البشر في الشرق الأوسط بحياة آمنة وهادئة خالية من الدراما والموت العنيف. وأظهر العام الأخير من الحرب، الذي كان أسوأ من أي عام آخر في المنطقة في العصر الحديث، مرة أخرى أن أحلام التوصل للسلام لا يمكن أن تتحقق في حين تظل خطوط الصدع السياسية والاستراتيجية والدينية العميقة دون جسر. ومرة أخرى، تعمل الحرب على إعادة تشكيل سياسات الشرق الأوسط.
انبثق هجوم حماس من صراع لم يُحل لأكثر من قرن، وبعد أن اقتحمت حماس الحدود مع إسرائيل، تسببت في “أسوأ يوم عانى منه الإسرائيليون منذ يوم المحرقة اليهودية أو الهولوكوست”.
قُتل نحو 1,200 شخص، معظمهم من المدنيين الإسرائيليين. واتصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالرئيس جو بايدن وأخبره أن “لم نشهد مثل هذه الوحشية في تاريخ الدولة، منذ الهولوكوست”.
ورأت إسرائيل أن هجمات حماس تشكل تهديداً لوجودها.
ومنذ ذلك الحين، ألحقت إسرائيل العديد من الأيام الرهيبة بالفلسطينيين في غزة. قُتل ما يقرب من 42 ألف شخص، معظمهم من المدنيين، وفقاً لوزارة الصحة التي تديرها حماس، وتحول جزء كبير من غزة إلى أنقاض. ويتهم الفلسطينيون إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية.
امتدت الحرب، وبعد اثني عشر شهراً من شن حماس للهجوم، أصبح الشرق الأوسط على حافة حرب أسوأ، أوسع وأعمق وأكثر تدميراً.
موت الأوهام
أزال عام من القتل، طبقات من الافتراضات والأوهام، أحدها اعتقاد نتنياهو بأنه قادر على إدارة القضية الفلسطينية، دون تقديم تنازلات لمطالب الفلسطينيين، بتقرير المصير.
وبزوال ذلك، ذهب أيضاً تفكير التمني الذي كان يريح حلفاء إسرائيل الغربيين القلقين. أقنع القادة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وغيرهم أنفسهم بأن نتنياهو، على الرغم من معارضته لدولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل طوال حياته السياسية، يمكن إقناعه بطريقة ما بقبول دولة فلسطينية – لإنهاء الحرب.
عكس رفض نتنياهو تقريباً عدم ثقة واسع الانتشار بالفلسطينيين داخل إسرائيل، وكذلك عكس أيديولوجيته الشخصية. كما أنه نسف خطة سلام أمريكية طموحة.
اقترحت “الصفقة الكبرى” للرئيس بايدن أن تحصل إسرائيل على اعتراف دبلوماسي كامل من المملكة العربية السعودية، الدولة الإسلامية الأكثر نفوذاً، في مقابل السماح باستقلال دولة فلسطينية، ومكافأة السعوديين باتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة.
سقطت خطة بايدن عند العقبة الأولى. قال نتنياهو في فبراير/شباط إن الدولة ستكون “مكافأة ضخمة” لحماس. قال بتسلئيل سموتريتش، أحد اليمينيين القوميين في حكومته، إن ذلك سيشكل “تهديداً وجودياً” لإسرائيل.
كان زعيم حماس، يحيى السنوار، الذي يُفترض أنه على قيد الحياة، في مكان ما في غزة، لديه أوهامه الخاصة. قبل عام، لابد أنه كان يأمل أن ينضم ما يسمى بـ “محور المقاومة” الإيراني، بكل قوته، إلى حرب لشل إسرائيل. لكنه كان مخطئاً.
أبقى السنوار خططه لمهاجمة إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول سرية للغاية لدرجة أنه فاجأ عدوه، كما فاجأ البعض ممن يقفون بجانبه. وقالت مصادر دبلوماسية لـ بي بي سي إن السنوار ربما لم يشارك خططه حتى مع القيادة السياسية المنفية للحركة في قطر. وقال أحد المصادر إن لديهم بروتوكولات أمنية معروفة “بسهولة اختراقها”، إذ كانوا يتحدثون عبر خطوط مفتوحة يمكن التنصت عليها بسهولة.
وبعيداً عن شن الهجوم، أوضحت إيران أنها لا تريد حرباً أوسع، بعد أن غزت إسرائيل غزة وأمر الرئيس بايدن مجموعات حاملات الطائرات الأمريكية بالاقتراب لحماية إسرائيل.
كما اكتفى حسن نصر الله وحليفه المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي بإطلاق الصواريخ على الحدود الشمالية لإسرائيل، والتي قالا إنها ستستمر حتى وقف إطلاق النار في غزة. وكانت الأهداف عسكرية في الغالب، لكن إسرائيل أجلت أكثر من 60 ألف شخص بعيداً عن الحدود. وفي لبنان، ربما اضطر ضعف هذا العدد إلى الفرار على مدى الأشهر عندما ردت إسرائيل.
أوضحت إسرائيل أنها لن تتسامح مع حرب استنزاف غير محددة مع حزب الله. ومع ذلك، كانت الحكمة هنا ستفيد بأن إسرائيل ستتجنب التصعيد نظراً لسجل حزب الله القوي في القتال خلال الحروب السابقة وترسانته من الصواريخ التي زودته بها إيران.
ولكن، في سبتمبر/أيلول، شنت إسرائيل هجوماً. ولم يعتقد أحد خارج الرتب العليا في قوات الجيش الإسرائيلي وشبكة الموساد أنه يمكن إلحاق مثل هذا القدر من الضرر بهذه السرعة بحليف إيران الأقوى.
فجّرت إسرائيل أجهزة النداء والراديو المفخخة عن بعد، ما أدى إلى تدمير اتصالات حزب الله وقتل قادته. لقد شنت واحدة من أكثر حملات القصف كثافة في الحرب الحديثة. في يومها الأول قتلت إسرائيل حوالي 600 لبناني، بما في ذلك العديد من المدنيين.
أحدث الهجوم ثغرة كبيرة في اعتقاد إيران بأن شبكة حلفائها عززت استراتيجيتها لردع وأدت لترهيب إسرائيل. وجاءت اللحظة الحاسمة في السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول، مع الغارة الجوية الضخمة على الضاحية الجنوبية لبيروت والتي قتلت حسن نصر الله، زعيم حزب الله والعديد من كبار مساعديه. كان نصر الله جزءاً أساسياً من “محور المقاومة” الإيراني، وتحالفها غير الرسمي وشبكة دفاعها من الحلفاء والوكلاء.
خرجت إسرائيل من حرب الحدود من خلال التصعيد إلى حرب أكبر. وإذا كانت النية الاستراتيجية هي إجبار حزب الله على وقف إطلاق النار والانسحاب من الحدود، فقد فشلت. ولم يردع الهجوم وغزو جنوب لبنان إيران من الرد.
ويبدو أن إيران استنتجت أن إحجامها العلني عن المخاطرة بحرب أوسع نطاقاً كان يشجع إسرائيل على الدفع بقوة أكبر. وكان الرد بالضربة محفوفاً بالمخاطر، وكان يضمن رداً إسرائيلياً، ولكن بالنسبة للمرشد الأعلى والحرس الثوري الإيراني أصبح ذلك الخيار الأقل سوءاً.
وهاجمت إيران إسرائيل بالصواريخ الباليستية، في يوم الثلاثاء الأول من أكتوبر/تشرين الأول.
مستودع من الصدمات
يقع كيبوتس كفار عزة على مقربة شديدة من السلك الذي كان من المفترض أن يحمي حدود إسرائيل مع قطاع غزة. وكان الكيبوتس عبارة عن مجتمع صغير، به منازل متواضعة في حرم مفتوح من المروج والحدائق الأنيقة. ويشار إلى أن هذا الكيبوتس كان أحد الأهداف الأولى لحماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. إذ قتلت حماس اثنين وستين شخصاً منه. ومن بين الرهائن التسعة عشر الذين نُقلوا من هناك إلى غزة، قتلت القوات الإسرائيلية اثنين بعد فرارهما من الأسر. ولا يزال خمسة رهائن من كيبوتس كفار عزة في قبضة حماس في غزة.
أخذ الجيش الإسرائيلي الصحافيين إلى كيبوتس كفار عزة في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، عندما كانت لا تزال منطقة قتال. ورأينا القوات الإسرائيلية تتوغل في الحقول المحيطة بالكيبوتس، وسمعنا إطلاق النار أثناء استهداف المباني التي ي”شتبه في أن مقاتلي حماس قد يختبئون فيها”. وكان المدنيون الإسرائيليون الذين قتلتهم حماس يُنقلون في أكياس الجثث من بين أنقاض منازلهم. لا تزال جثث مقاتلي حماس الذين قتلهم جنود إسرائيليون أثناء محاولتهم دخول الكيبوتس ملقاة على المروج الأنيقة، وتحولت إلى اللون الأسود بعد أن تحللت تحت أشعة الشمس الحارقة.
بعد مرور عام، دُفن القتلى ولكن لم يكن هناك تغيير يذكر. لم يعد الأحياء للعيش في منازلهم. وبقيت المنازل المدمرة كما كانت عندما رأيتها في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، باستثناء أسماء وصور الأشخاص الذين عاشوا وقتلوا داخلها والتي عُرضت على ملصقات كبيرة ونصب تذكارية.
أخذنا زوهار شباك، أحد السكان الذين نجوا من الهجوم مع عائلته، في جولة حول منازل الجيران الذين لم يكونوا محظوظين مثله. كان أحد المنازل يحمل صورة كبيرة على جداره للزوجين الشابين اللذين عاشا هناك، وكلاهما قتلته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. حُفرت الأرض حول المنازل. قال زوهار إن والد الشاب أمضى أسابيع في نبش الأرض محاولاً العثور على رأس ابنه، لكن دفن بدونه.
قصص قتلى السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والرهائن، معروفة جيداً في إسرائيل. ولا تزال وسائل الإعلام المحلية تتحدث عن خسائرها، فتضيف معلومات جديدة إلى الآلام القديمة.
قال زوهار إنه من المبكر للغاية التفكير في كيفية إعادة بناء حياتهم.
“ما زلنا في حالة صدمة. نحن لسنا في مرحلة ما بعد الصدمة. فما زلنا هنا. ما زلنا في الحرب. أردنا أن تنتهي الحرب، لكننا نريد أن تنتهي بانتصار، ولكن ليس بانتصار الجيش. ليس انتصار الحرب. انتصاري هو أنني تمكنت من العيش هنا، مع ابني وابنتي، مع أحفادي والعيش بسلام. أنا أؤمن بالسلام”.
كان زوهار والعديد من سكان كيبوتس كفار عزة ينتمون إلى الجناح اليساري في السياسة الإسرائيلية، ما يعني أنهم يعتقدون أن الفرصة الوحيدة لإسرائيل للسلام هي السماح للفلسطينيين باستقلالهم. الإسرائيليون مثل زوهار وجيرانه مقتنعون بأن نتنياهو رئيس وزراء “كارثي” يتحمل مسؤولية ثقيلة، وتركهم عرضة للخطر في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
لكن زوهار لا يثق بالفلسطينيين، الأشخاص الذين اعتاد نقلهم إلى المستشفيات في إسرائيل في أوقات أفضل عندما سُمح لهم بالخروج من غزة لتلقي العلاج الطبي.
“أنا لا أصدق هؤلاء الناس الذين يعيشون هناك. ولكنني أريد السلام. أريد أن أذهب إلى شاطئ غزة. ولكنني لا أثق بهم. لا، لا أثق في أي منهم”.
“كارثة” غزة
لا يقبل قادة حماس أن الهجمات على إسرائيل كانت خطأ جلب غضب إسرائيل، التي سلحتها الولايات المتحدة ودعمتها، على رؤوس شعبهم. بل يلقون باللوم على إسرائيل كقوة احتلال، و”رغبتها في الدمار والموت”.
في قطر، بعد ساعة أو نحو ذلك من هجوم إيران على إسرائيل في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، أجريت مقابلة مع خليل الحية، زعيم حماس الأقدم خارج غزة، والثاني في منظمتهم بعد يحيى السنوار. ونفى الحية أن يكون رجاله قد استهدفوا المدنيين ــ على الرغم من الأدلة الساحقة ــ وبرر الهجمات بقوله إنه كان من الضروري وضع محنة الفلسطينيين على الأجندة السياسية العالمية.
“كان من الضروري دق ناقوس الخطر في العالم لإخبارهم بأن هناك شعباً له قضية ومطالب يجب تلبيتها. كانت ضربة لإسرائيل، العدو الصهيوني”.
شعرت إسرائيل بالضربة، وفي السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وبينما كان الجيش الإسرائيلي يسرع بإرسال قواته إلى حدود غزة، ألقى بنيامين نتنياهو خطاباً وعد فيه “بالانتقام الشديد”. وحدد أهداف الحرب المتمثلة في القضاء على حماس كقوة عسكرية وسياسية وإعادة الرهائن إلى ديارهم. ويواصل رئيس الوزراء الإصرار على أن “النصر الكامل” ممكن، وأن القوة ستحرر في النهاية الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس لمدة عام.
ويتهمه خصومه السياسيون، بما في ذلك أقارب الرهائن، بعرقلة وقف إطلاق النار والصفقة الخاصة بالرهائن لاسترضاء القوميين المتطرفين في حكومته. كما يُتهم بأنه يضع بقاءه السياسي قبل حياة الإسرائيليين.
لدى نتنياهو العديد من الأعداء السياسيين في إسرائيل، فعلى الرغم من أن الهجوم على لبنان ساعد في “إصلاح” أرقام استطلاعات الرأي الخاصة به، إلا أنه لا يزال مثيراً للجدل، ولكن بالنسبة لمعظم الإسرائيليين فإن الحرب في غزة ليست كذلك. فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، قست قلوب معظم الإسرائيليين على معاناة الفلسطينيين في غزة.
بعد يومين من بدء الحرب، قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت إنه أمر بفرض “حصار كامل” على قطاع غزة.
“لن تكون هناك كهرباء، ولا طعام، ولا وقود، كل شيء مغلق.. نحن نقاتل حيوانات بشرية ونحن نتصرف وفقاً لذلك”.
ومنذ ذلك الحين، وتحت الضغط الدولي، اضطرت إسرائيل إلى تخفيف حصارها. وفي الأمم المتحدة في نهاية سبتمبر/أيلول، أصر نتنياهو على أن سكان غزة لديهم كل ما يحتاجون إليه من طعام.
لكن الأدلة تشير بوضوح إلى أن هذا غير صحيح. فقبل أيام من خطابه، وقعت وكالات الأمم المتحدة الإنسانية على إعلان يطالب بإنهاء “المعاناة الإنسانية المروعة والكارثة الإنسانية في غزة”.
“أكثر من مليوني فلسطيني محرومون من الحماية، والطعام، والمياه، والصرف الصحي، والمأوى، والرعاية الصحية، والتعليم، والكهرباء والوقود ــ الضروريات الأساسية للبقاء على قيد الحياة. كما تشردت الأسر قسراً، مراراً وتكراراً، من مكان غير آمن إلى آخر، دون أي وسيلة للخروج”.
وعملت وحدة تقصي الحقائق في بي بي سي على تحليل الوضع في غزة بعد عام من الحرب.
وتقول وزارة الصحة التي تديرها حماس إن نحو 42 ألف فلسطيني قتلوا حتى الآن بسبب القصف الإسرائيلي.
تشير تحليلات صور الأقمار الصناعية التي أجراها الأكاديميان الأمريكيان كوري شير وجامون فان دين هوك إلى أن 58.7 في المئة من المباني في غزة قد تضررت أو دمرت.
ولكن هناك تكلفة إنسانية أخرى: النزوح. إذ يأمر الجيش الإسرائيلي المدنيين مراراً وتكراراً بالتحرك.
ويمكن رؤية آثار تحرك الناس عبر صور الأقمار الصناعية، التي تظهر كيف تكدست الخيام ثم تفرقت في وسط رفح. وهو نمط تكرر في مختلف أنحاء القطاع.
بدأت موجات النزوح هذه في 13 أكتوبر/تشرين الأول، عندما أمرت قوات الجيش الإسرائيلي سكان النصف الشمالي من القطاع بالتحرك جنوباً من أجل “سلامتهم”.
حددت بي بي سي لتقصي الحقائق أكثر من 130 منشوراً على وسائل التواصل الاجتماعي منها منشورات شاركها الجيش الإسرائيلي، توضح المناطق التي تم تحديدها كـ”مناطق قتال”، والطرق التي يجب الخروج منها والأماكن التي ستحدث فيها فترات توقف مؤقتة في القتال.
وفي المجموع، بلغت هذه المنشورات المتداخلة في كثير من الأحيان حوالي 60 أمراً بالإخلاء تغطي أكثر من 80 في المئة من قطاع غزة.
ووجدت بي بي سي أن التفاصيل الرئيسية في العديد من الإشعارات غير قابلة للقراءة وحدود مرسومة غير متسقة مع النص.
“كانت حياتنا جميلة، فجأة لم يعد لدينا أي شيء”
تظهر صور الأقمار الصناعية اكتظاظاً هائلاً بالناس في شارع صلاح الدين، بعد أن أمرت إسرائيل بإخلاء شمال غزة فعلياً.
في مكان ما بين الحشود التي تتحرك على طول شارع صلاح الدين، الطريق الرئيسي من شمال غزة إلى جنوبها، كانت تعيش إنصاف حسن علي وزوجها وطفلاها، صبي يبلغ من العمر 11 عاماً وفتاة تبلغ من العمر سبع سنوات. حتى الآن، نجوا جميعاً، على عكس العديد من أفراد عائلتهم الممتدة.
لا تسمح إسرائيل للصحفيين بدخول غزة لتغطية الأحداث بحُرية. ونفترض أن هذا لأن إسرائيل لا تريدنا أن نرى ما فعلته هناك. لقد كلفنا صحفياً مستقلاً فلسطينياً موثوقاً به داخل غزة بإجراء مقابلة مع إنصاف وابنها.
تحدثت إنصاف عن الخوف الرهيب الذي شعروا به وهم يسيرون جنوباً، مع ربما مليون شخص آخر، كما تروي، بناءً على أوامر الجيش الإسرائيلي. تقول إن الموت كان في كل مكان.
“كنا نسير في شارع صلاح الدين. أصيبت سيارة أمامنا. لقد رأيناها، كانت تحترق.. على اليسار، قُتل الناس، وعلى اليمين، حتى الحيوانات – الحمير كانت ملقاة في كل مكان، وتعرضت للقصف”.
تضيف: “قلنا، لقد انتهت حياتنا. الآن، الصاروخ القادم سيقتلنا”.
كانت إنصاف وعائلتها من الطبقة المتوسطة وتعيش حياة مريحة قبل الحرب. لكن منذ اندلاع الحرب الأخيرة، هُجرت 15 مرة بأمر من إسرائيل.
ومثلهم كمثل الملايين الآخرين، فإنهم يعيشون الآن في فقر مدقع، وكثيراً ما يعانون من الجوع، ويعيشون في خيمة في المواصي، وهي منطقة مهجورة من الكثبان الرملية. وتغزو الثعابين والعقارب والديدان العملاقة السامة الخيام. فضلاً عن خطر الموت في غارة جوية، فإنهم يواجهون الجوع والمرض والغبار الناتج عن عدم قدرة الملايين من الناس على الوصول إلى خدمات الصرف الصحي المناسبة.
بكت إنصاف مستذكرة حياتها القديمة قبل الحرب، وبكت على الأشخاص الذين فقدتهم.
“كانت حياتنا جميلة، وفجأة لم يعد لدينا أي شيء ــ لا ملابس، ولا طعام، ولا أساسيات الحياة. إن النزوح المستمر يشكل صعوبة بالغة على صحة أطفالي. لقد أصيبوا بسوء التغذية وأصيبوا بأمراض، بما في ذلك الأميبيا والتهاب الكبد”.
قالت إنصاف إن بداية أشهر القصف الإسرائيلي كانت أشبه بـ”أهوال يوم القيامة”.
“كانت أي أم تشعر بنفس الشعور، وأي شخص يمتلك شيئاً ثميناً ويخشى أن يفلت من بين يديه في أي لحظة. في كل مرة ننتقل فيها إلى منزل، كان يتعرض للقصف ويقتل أحد أفراد عائلتنا”.
تغدو الفرصة الوحيدة لإحداث أي تحسن ولو بسيط في حياة إنصاف وعائلتها وأكثر من مليوني شخص آخرين في غزة عبر الاتفاق على وقف إطلاق النار. وإذا توقف القتل، فقد يكون لدى الدبلوماسيين فرصة لوقف الانزلاق إلى كارثة أوسع نطاقاً.
إن المزيد من الكوارث تنتظرنا في المستقبل، إذا استمرت الحرب ولم يتمكن جيل جديد من الإسرائيليين والفلسطينيين من التخلص من الكراهية والرعب الذي يشعر به كثيرون حالياً إزاء تصرفات الجانب الآخر.
تأثر ابن إنصاف البالغ من العمر 11 عاماً، أنس عوض، بشدة بكل ما رآه.
“لا يوجد مستقبل لأطفال غزة. استشهد الأصدقاء الذين اعتدت اللعب معهم. كنا نركض معاً. رحمهم الله. وتعرض المسجد الذي اعتدت حفظ القرآن فيه للقصف. وتعرضت مدرستي للقصف. وكذلك الملعب.. ذهب كل شيء. أريد السلام. أتمنى لو أستطيع العودة مع أصدقائي واللعب مرة أخرى. أتمنى لو كان لدينا منزل وليس خيمة”.
“لم يعد لدي أصدقاء، تحولت حياتنا كلها إلى رمال. عندما أخرج إلى ساحة الصلاة، أشعر بالقلق والتردد. لا أشعر بأنني على ما يرام”.
كانت والدته تستمع إليه وهو يتحدث.
“كان هذا العام هو الأصعب في حياتي. رأينا مشاهد لم يكن ينبغي لنا أن نراها – جثث متناثرة، ويأس رجل يحمل زجاجة ماء ليشرب أطفاله. لم تعد منازلنا منازل، إنها مجرد أكوام من الرمال، لكننا نأمل في يوم ما، أن نتمكن فيه من العودة”.
إدانات أممية
أدانت وكالات الأمم المتحدة الإنسانية كلاً من إسرائيل وحماس: “إن سلوك الطرفين على مدار العام الماضي يناقض ادعاهما بالالتزام بالقانون الإنساني الدولي والمعايير الدنيا للإنسانية المطلوبة”.
ينفي كلا الجانبين الاتهامات بانتهاك قوانين الحرب. تقول حماس إنها أمرت رجالها بعدم قتل المدنيين الإسرائيليين، وتقول إسرائيل إنها تحذر المدنيين الفلسطينيين من الابتعاد عن الأذى لكن حماس تستخدمهم كـ”دروع بشرية”.
أُحيلت إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية، بعد اتهامها من قبل جنوب أفريقيا بالإبادة الجماعية. تقدم المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية بطلب للحصول على أوامر اعتقال على خلفية مجموعة من تهم “جرائم الحرب” ليحيى السنوار من حماس، وبنيامين نتنياهو ويوآف غالانت من إسرائيل.
الانغماس في حالة من “عدم اليقين”
بالنسبة للإسرائيليين، كانت هجمات حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول بمثابة تذكير مؤلم بقرون من المذابح ضد اليهود في أوروبا والتي بلغت ذروتها بالإبادة الجماعية التي نفذتها ألمانيا النازية. في الشهر الأول من الحرب، شرح الكاتب الإسرائيلي والسياسي السابق أبراهام بورج التأثير النفسي العميق على بلاده.
قال لي: “نحن اليهود نعتقد أن دولة إسرائيل هي أول وأفضل نظام مناعة ونظام حماية للتاريخ اليهودي. لا يوجد فيها مزيد من المذابح، ولا محرقة، ولا جرائم قتل جماعي. وفجأة، عاد كل شيء”.
إن أشباح الماضي كانت تعذب الفلسطينيين أيضاً. يعتقد رجا شحادة، الكاتب الفلسطيني الشهير وناشط حقوق الإنسان، أن إسرائيل كانت تريد أن تصنع “نكبة” أخرى. في كتابه الأخير “ما الذي تخشاه إسرائيل من فلسطين؟” يكتب: “مع تقدم الحرب، أدركت أنهم كانوا يقصدون كل كلمة ولم يبالوا بالمدنيين، بما في ذلك الأطفال. وفي نظرهم، وكذلك في نظر أغلب الإسرائيليين، كان كل أهل غزة مذنبين”.
لا أحد يستطيع الشك في عزم إسرائيل على الدفاع عن شعبها، بمساعدة هائلة من الولايات المتحدة. ولكن من الواضح أن الحرب أظهرت أن لا أحد يستطيع أن يخدع نفسه بأن الفلسطينيين سيقبلون حياة العيش إلى الأبد تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي، دون حقوق مدنية مناسبة، وحرية الحركة والاستقلال.
بعد أجيال من الصراع، اعتاد الإسرائيليون والفلسطينيون على مواجهة بعضهم البعض. لكنهم اعتادوا أيضاً على العيش جنباً إلى جنب، مهما كان ذلك غير مريح. عندما يأتي وقف إطلاق النار، ومع جيل جديد من القادة، ستكون هناك فرص للدفع مرة أخرى نحو السلام.
لكن هذا في مستقبل أكثر بعداً. وإن ما تبقى من العام وحتى عام 2025، وبوجود رئيس جديد في البيت الأبيض، غير مؤكد ومليء بالمخاطر.
كان الخوف من انتشار الحرب وتفاقمها مستمراً لعدة أشهر بعد هجوم حماس على إسرائيل. ولكن حدث ذلك ببطء، ثم تسارع بشكل كبير، بعد الهجمات الإسرائيلية المدمرة على حزب الله ولبنان.
فات الأوان للقول إن الشرق الأوسط على شفا الهاوية. فإسرائيل تواجه إيران، وانغمست الأطراف المتحاربة في الأمر، والبلدان التي لم تشارك بشكل مباشر بعد حريصة على عدم الانجراف إلى الهاوية.
وفي الوقت الذي أكتب فيه هذا المقال، لم ترد إسرائيل بعد على الهجوم الصاروخي الباليستي الإيراني في الأول من أكتوبر/تشرين الأول. وأشارت إلى أنها تنوي “فرض عقوبة شديدة” و”الرد بالطريقة والوقت المناسبين”. ويحاول الرئيس بايدن وإدارته، المورد الدائم لإسرائيل بالأسلحة والدعم الدبلوماسي، ضبط الرد الذي قد يوفر لإيران وسيلة لوقف الصعود المتسارع على سلم التصعيد، وهي العبارة التي يستخدمها الاستراتيجيون لوصف الطريقة التي تتسارع بها الحروب من الأزمة إلى الكارثة.
إن اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، إلى جانب الدعم الثابت الذي يقدمه جو بايدن لإسرائيل، على الرغم من شكوكه بشأن الطريقة التي تقاتل بها، لا يبعث على الكثير من التفاؤل بأن الولايات المتحدة ستتوصل بطريقة ما إلى مخرج.
وتشير الإشارات الصادرة عن إسرائيل إلى أن نتنياهو وغالانت وجنرالات الجيش الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات يعتقدون أنهم يتمتعون باليد العليا. وكان السابع من أكتوبر/تشرين الأول كارثة بالنسبة لهم، إذ اعتذر جميع كبار القادة الأمنيين والعسكريين، باستثناء رئيس الوزراء، واستقال بعضهم.
ولم يخططوا لحرب مع حماس. لكن التخطيط للحرب مع حزب الله بدأ بعد أن انتهت الحرب الأخيرة في عام 2006 في طريق مسدود مهين لإسرائيل. لقد تعرّض حزب الله في الأيام الأخيرة من ضربات قد لا يتعافى منها أبداً.
وحتى الآن، كانت انتصارات إسرائيل تكتيكية. وللوصول إلى نصر استراتيجي، ستحتاج إلى إجبار أعدائها على تغيير سلوكهم. ويُظهِر حزب الله، حتى في تراجع وضعه، أنه يريد الاستمرار في القتال. إن مواجهة المشاة والدبابات الإسرائيلية الآن بعد غزو جنوب لبنان مرة أخرى قد تلغي بعض مزايا إسرائيل في القوة الجوية والاستخبارات.
وإذا ردت إيران على رد إسرائيل بموجة أخرى من الصواريخ الباليستية، فقد تجتذب دولاً أخرى. في العراق، قد تهاجم الجماعات المسلحة التابعة لإيران المصالح الأمريكية. يشار إلى أن جنديين إسرائيليين قتلا بطائرة بدون طيار جاءت من العراق.
تنظر المملكة العربية السعودية أيضا بقلق. وأوضح ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وجهة نظره بشأن المستقبل. فهو قد يفكر في الاعتراف بإسرائيل، ولكن فقط إذا حصل الفلسطينيون على دولتهم، وإذا ضمنت المملكة العربية السعودية على اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة.
إن دور جو بايدن، الذي يحاول في الوقت نفسه كبح جماح إسرائيل ودعمها بالأسلحة والدبلوماسية ومجموعات حاملات الطائرات، يعرض الأميركيين للتورط في حرب أوسع نطاقاً مع إيران. وهم لا يريدون أن يحدث ذلك، لكن بايدن تعهد بأنه سوف يأتي لمساعدة إسرائيل إذا لزم الأمر.
إن اغتيال إسرائيل لحسن نصر الله، والأضرار التي لحقت باستراتيجية إيران و”محور المقاومة” الخاص بها، يعزز مجموعة جديدة من الأوهام بين البعض في إسرائيل والولايات المتحدة. والفكرة الخطيرة هي أن هذه فرصة يراها نتنياهو “ذهبية” لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بالقوة، وفرض النظام و”تحييد” أعداء إسرائيل. وينبغي لجو بايدن ــ وخليفته ــ أن يكونا حذرين من ذلك.
يشار إلى أن آخر مرة تم فيها التفكير بجدية في إعادة هيكلة الشرق الأوسط بالقوة كانت بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول التي شنتها القاعدة على أمريكا، عندما كان الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير يستعدان لغزو العراق في عام 2003.
ولم يخلّص غزو العراق الشرق الأوسط من التطرف العنيف، بل جعل الأمور أسوأ.
ينبغي أن تكون الأولوية بالنسبة لأولئك الذين يريدون وقف هذه الحرب، بوقف إطلاق النار في غزة. إنها الفرصة الوحيدة لتهدئة الأمور وخلق مساحة للدبلوماسية. بدأت هذه السنة من الحرب في غزة، وربما يمكن أن تنتهي هناك أيضاً.
Source link
اضف تعليقك