هذه الكلمة تحمل معانى كثيرة معظمها يصل إلى الماضى البعيد تبدأ فى مرحلة الطفولة، تلك المرحلة التى نلتقط فيها السلوكيات ونختزنها، وربما نتناسى بعضها وتجبر على الآخر .
فى الطفولة كانت حياتنا كلها مكتسبات تعلوها كلمة ” التعود” ففى أيامنا تلك نمضى على نهج ربما يكون واحد متفردا ومتساوى فى كل البيوت ومعظم الأسر .ففى كل صباح ، وكل مساء تتكرر المشاهد ؛ من استيقاظ ، وواجبات منزلية ، ومدرسية وجامعية ووظيفية ، مراحل التعود تعلمناها بصفة اكبر فى المدرسة عندما شرحوا لنا في المدرسة شيئا عن التعود ، وكيف ان الانسان كائن اجتماعى يعتاد ويتعود على سلوكيات يومية ينفذها بتلقائية وبدون أى مجهود منه وبدون إظهار ما يخفيه فى باطنه.
فحين نشم رائحة تضايقنا فإن اعضاءنا العصبية كلها تنتبه وتعبّر عن ضيقها ، بعد حين من البقاء مع الرائحة يخف الضيق ؛ اتعرف معنى هذا الشعور معناه أن هناك شعيرات حساسة فى مجرى الشم قد ماتت فلم تعد تتحسس ولا تشعر، وعليه فلم تعد تنتبه تلك الأجزاء العصبية لمصدر الرائحة واعتادتها، هذه الجملة التوضيحية برهن عليها العديد من الأصدقاء الذين كانوا يعيشون فى منطقة من مناطق قاهرة المعز تسمى ” شادر السمك ” قريبة من منطقة الزاوية ومن اسمها نعرف انها كانت سوقا كبيرا لبيع الأسماك وسط تجمع للسكان ، كل من يقترب من المنطقة فى طريقه الى عمله او دراسته كان يتأفف من الرائحة ويحاول أن يكتم نفسه ويسد أنفه حتى لا يشتم هذه الرائحة المقززة بخلاف ساكنى المنطقة الذين كانوا يستغربوا سلوك القادمين اليهم ويعيبونه ويعتبرونه مبالغا فيه . ليس الشم فقط ماينطبق عليه التعود ومجاراة الواقع؛ ولكن السمع أيضا ينطبق عليه نفس الشىء، فحين تمر في سوق النحاسين فإن الضجة تثير أعصابك ويصيبك الهلع والرغبة الجامحة فى المغادرة الفورية فى أول الوقت ، ولكن لو أقمت هناك لتعودت مثلما يتعود المقيمون والنحاسون أنفسهم .
السبب نفسه هو تلك الشعيرات الحساسة في الأذن والتى قد ماتت واعتادت باقى الاعضاء على الصوت وعلى الحياة رغم موت جزء منها رافضا أو مقتولا من القادم عليه بقوة ودمار.
نحن لا نتعود إلا إذا مات فينا شيء؛ تصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما يجري حولنا .إذن التعود هو موت مرحلى يجعلك تتعايش مع الواقع بما تبقى منك من أعضاء، وإذا شرحنا اكثر مفردات التعود نجدها تتضح أكثر فى موت احبابنا فحينها يموت جزء منا ولكننا نتعايش برغم مامات فينا بموت احد احبابنا او اصدقاءنا او جيراننا ، التعود فى وضعية اخرى يصبح اجباريا عندما يموت فلذة كبدك فانه يعنى موتك كلية وليس جزءا منك ولكنك تقاوم وتجبر على التأقلم مع واقع نزع فيه كبدك وصرت تعيش مبتورا متأرجحا فاقدا لمقومات الحياة ولكنك بعرف الاحياء والحياة لازلت على قيد الحياة .
بين الفقد والتعود يأتى مفهوم اخر من مفاهيم التعود وهو الهجر او الابتعاد عمن احببت وتفانيت فى اسعاده ولكنه لفظك وتركك ولم يهتم بمعاناتك ، حينها يموت قلبك وتفقد عنصرا قويا من عناصر ضخ اسباب العيش والحياة ولكنك لاتستطيع الا ان تتعود وتتعايش وتتعامل مع جرحك على انه نتيجة عضو مبتور منك جعلك تواصل الحياة رغم موتك وبقاءك على قيد الحياة بلا قلب .معنى اخر قاسى من معانى التعود وهو ان تعيش فى بلدك وانت لاتتمتع بكل مقومات المواطنة وان تصبح مواطن مقيد الحرية مجبورا تتلقى تعاليم العيش من محتل مغتصب ولعل ذلك يوضح معاناة الفلسطينيين وحياتهم وتعودهم على القهر والالم ، ماتت فيهم مشاعر ان يصبحوا مثلهم مثل من حولهم من مواطنين وشعوب ولكنهم يعيشون انتظارا للحظة ان تعود اعضاءهم كلها للحياة ويصبح لهم وطن حر ومستقل . التعود كلمة حزينة ولكنها قد تكون مرضية لتفسير أوضاع كثيرة وتحليل مواقف لا نملك فيها ولا منها إلا أن نعيش ونتعايش ونتعود.
أن تتعود يعنى أن ترضى أو تتراضى مع واقعك وتطبب أوجاعك وآلامك وتواصل التعود والاعتياد وترضى بالواقع لآنك لاتملك المزيد من الأعضاء لتضخ فيك دماء الحياة وتهبك قبلة الحياة، أن تتعود يعنى أنك نصف ميت ولكنك لا تستطيع أن تهب لأعضائك الحياة مرة أخرى لان الموت والحياة لا يملكها إلا الله جل سلطانه وعظم قدره، أن تتعود معناه أنك تستعد فى كل لحظة للموت النهائى الذى يخلصك مما مات من اعضاءك ويريحك من أن تصم اذنيك وتسد أنفك وتضغط على قلبك حتى لايشعر ولا يتألم من وجع التعود، أن تتعود معناه أنك لم تكن على قيد الحياة بل انك كنت متأهبا للحياة الأبدية التى يسودها العدل الإلهى ولايوجد فيها الظلم والجبروت الدنيوى.
اضف تعليقك