OnNEWS

د. شما محمد خالد آل نهيان تكتب: تأمل في الانتظار

#مقالات رأي

في أعماق النفس البشرية، تتصارع المشاعر، وتتداخل الأحاسيس، وتنبعث صور شديدة العمق والحِدَّة، كأنَّ العمق البشري ذو براكين تفور في انتظار لحظة الانفجار. وحينما تنفجر تتحول إلى صخور سوداء ملساء، تغلق منافذ الروح عن العالم، وتعزلها في قفص يصعب التحرر منه. وتتسرب إلى الروح المعزولة أمطار وعواصف الحياة، فتجرف الألم إلى العمق الروحي، وتزيد حدة توهج البراكين الداخلية. 

هذا المشهد الوجودي المتأجج انعكاس لما تشعر به الروح؛ حينما تكون في دائرة الانتظار. ذلك الشعور الذي يتجاوز مفهوم الزمن، ويتحول إلى سجن داخلي، حيث تُحبس الآمال، وتُعلق الأحلام على مجهول بعيد، مجهول قد لا يأتي. فيبدو الشخص المُنتظر كأنه يُعاقَب على ذنب لم يرتكبه، أو يتحمل أوزار الآخرين. ومهما حاول أن يُضحي، أن يُعطي، أن يُحب، سيبقى في أعين الآخر المقصرَ، المخطئَ، والمُدان دائمًا.

إنها تجربة إنسانية عميقة، أن تحترق كل ليلة، أن تشعر بنار الحزن والأسى تلتهم روحك، انتظاراً لما خلف أحلام الأمل، بينما يُعاتبك الآخر على رائحة الرماد. وكأن الألم الداخلي الذي تحمله لا يكفي، بل يُضاف إليه وزن اللوم المستمر على الانتظار. هذا التناقض الصارخ بين الاحتراق الداخلي، وبين الانتقاد الخارجي، يضع الإنسان في حالة من الانفصال عن العالم، حيث يصبح الألم لغته الوحيدة، والشعور بالعجز صديقه الدائم.

لا يوجد ألم يفوق ألم الانتظار، ذلك الشعور القاتم، الذي يُعري الإنسان من لحظاته الجميلة، ويستبدلها بأيام قلقة، تزداد قسوتها مع كل محاولة لتغيير الواقع.

في ظل لحظات الانتظار، ومكابدة الخوف؛ تنغمس الروح في دوامة من التساؤلات الفلسفية: هل نحن الذين نختار نهاياتنا القاسية، أم أن القدر يفرضها علينا؟.. هل يمكننا إبرام صفقات جديدة مع العمر المتبقي، نغلق فيها أبواب الحنين، ونتجنب ألم الاشتياق.. أم أن الحياة، بطبيعتها، تفرض علينا أن نظل عالقين في هذا الصراع الأبدي بين الحنين إلى الأيام الجميلة ومراوغة الألم الذي يجلبه الخوف؟.. هل يمكن للإنسان أن يؤمن بأن الأبواب الجديدة ستفتح.. أم أن الواقع، بكل قسوته، يدفعنا إلى الاستسلام، والاعتراف بالعجز عن مواصلة الحلم؟

الألم والرجاء وجهان لعملة واحدة في التجربة الإنسانية. فالألم يعري الإنسان من أوهامه «الهشة»، فيُواجه بحقيقته العارية، بينما الرجاء يمنحه القوة للاستمرار، للإيمان بأن الفرح ممكن، حتى لو بدا بعيدًا. لا يمكننا أن نغلق أبواب الاشتياق والحنين؛ لأننا – ببساطة – لا نستطيع إلغاء ما يجعلنا بشرًا. لكننا، أيضًا، بحاجة إلى البحث عن تلك اللحظات الصغيرة، التي تحمل في طياتها أملًا جديدًا، وفرحًا قادمًا لا نعلم متى نعيشه.

إن معاناة الانتظار، واحتراق الروح، ولوم الآخرين، هي من أثقل الأعباء، التي يمكن أن يواجهها الإنسان. ولكن، رغم ذلك، تظل الحياة مليئة بالتناقضات، التي تجعلها تستحق أن تُعاش. ففي وسط الألم، قد يُفتح باب على فرح جديد. هذا الأمل، مهما بدا ضئيلًا أو بعيدًا، يمنح الحياة معناها، ويجعلنا نستمر، ونتجاوز، ونبحث عن دفء جديد، يعوضنا كلَّ ما فقدناه.


Source link

اضف تعليقك

إعلان

العربية مباشر

إعلان

Your Header Sidebar area is currently empty. Hurry up and add some widgets.